السؤال: أين تكون روح الميت بعد سؤال الملكين له ؟
الجواب
الحمد لله
هذه
المسألة من مسائل الغيب التي لا مجال للاجتهاد فيها ، وإنّما يتّبع فيها
الوحي ، وقد صحّت عن المصطفى صلّى الله عليه وسلّم أحاديث عدّة في بيان
أماكن أرواح العباد ؛ لذلك اختلف أهل العلم في تحديد أماكنها بناءً على
اختلاف الأحاديث الواردة بذلك .
والذي
يظهر -والله أعلم – أنّ الأرواح على أشكال عدّة ، ولكلٍّ مكان خاصّ يختلف
عن مكان الأخرى ؛ فإنّ النّصوص قد جاءت بأنّ منها ما يكون في حواصل طير خضر
تسرح في الجنّة ، وجاء في بعض النّصوص بأنّها تكون أسودة عن يمين آدم وعن
يساره ؛ فأهل اليمين منهم أهل الجنة ، والأسودة عن شماله أهل النار ؛ فإذا
نظر عن يمينه ضحك ، وإذا نظر قبل شماله بكى .
وأخبر
النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم عن شخص بعد الموت محبوس على باب الجنّة ،
فقال : ( رأيت صاحبكم محبوساً على باب الجنّة ) ، وفي الحديث الصّحيح : (
ومنهم من يُحبس في قبره بسبب الدَّين ، ومنهم من حبس في قبره في غلّة غلّها
) ، ومن الأرواح ما يكون مقرّه عند باب الجنّة ، كما جاء في حديث ابن
عبّاس : ( الشّهداء على بارق ) ، ما هو بارق ؟ ( قال : نهر بباب الجنة في
قبة خضراء يخرج عليهم رزقهم من الجنّة بكرةً وعشياً ) . حديث صحيح .
فالأرواح
منها ما هو في مراتب عليا ، تسرح في الجنّة مع النّبيّين والصّدّيقين
والشّهداء والصّالحين ، ومنها ما يكون على بارق -نهر بباب الجنّة- يخرج
رزقهم من الجنّة إليهم بكرة وعشياً ، ومنها ما يكون في قناديل ، ومنها ما
يأوي تحت العرش ، ومن الأرواح ما يكون محبوساً في الأرض لا يرفع إلى الملأ
الأعلى ، ومنها ما يكون محبوساً في تنور من نار يأتيهم النّار من أسفل
فيضجّون ويصيحون ، وهؤلاء هم الزناة والزواني ، وقد أخبر النّبيّ صلّى الله
عليه وسلّم عن حالهم في الحديث الصّحيح : ( أرواح الزناة والزواني تحبس في
تنور من نار يعذّبون إلى أن تقوم السّاعة ) . هذا عذابهم في البرزخ ،
وكذلك أكلة الربا الذين رآهم النّبيّ - صلّى الله عليه وسلّم - يسبحون في
نهر الدم ويلقمون الحجارة ، ويسبحون والحجارة في بطونهم في نهرٍ من دم منتن
، كما كانوا يأكلون الربا في الدنيا .
ومع
أن الأرواح لها أحوال مختلفة ، في أماكن مختلفة ، فإنه يبقى لها اتّصال
بالبدن في الأرض ، ولو كانت تطير وتسرح في أنهار الجنة في أعلى علّيّين .
قال
ابن قيّم الجوزيّة في كتابه "الرّوح" (1/90-92) : " هذه مسألة عظيمة تكلّم
فيها النّاس واختلفوا فيها ، وهى إنّما تتلقّّّى من السّمع فقط ، واختلف
في ذلك :
فقال
قائلون : أرواح المؤمنين عند الله في الجنّة ، شهداء كانوا أم غير شهداء ؛
إذا لم يحبسهم عن الجنّة كبيرة ولا دين ، وتلقّاهم ربّهم بالعفو عنهم
والرّحمة لهم . وهذا مذهب أبى هريرة وعبد الله بن عمر رضي الله عنهم .
وقالت طائفة : هم بفِناء الجنّة على بابها ، يأتيهم من روحها ونعيمها ورزقها .
وقالت طائفة : الأرواح على أفنية قبورها .
وقال مالك : بلغني أنّ الرّوح مرسلة تذهب حيث شاءت .
وقال الإمام أحمد في رواية ابنه عبد الله : أرواح الكفّار في النّار، وأرواح المؤمنين في الجنّة.
وقال أبو عبد الله بن منده : وقال طائفة من الصّحابة والتّابعين : أرواح المؤمنين عند الله عزّ و جلّ ولم يزيدوا على ذلك .
قال : روي عن جماعة من الصّحابة والتّابعين : أرواح المؤمنين بالجابية ، وأرواح الكفّار ببَرَهوت بئر بحضرموت .
وقالت طائفة : أرواح المؤمنين ببئر زمزم ، وأرواح الكفّار ببئر برهوت .
وقال
سلمان الفارسيّ : أرواح المؤمنين في برزخ من الأرض تذهب حيث شاءت ، وأرواح
الكفّار في سجّين ، وفي لفظ عنه : نسمة المؤمن تذهب في الأرض حيث شاءت .
وقالت طائفة : أرواح المؤمنين عن يمين آدم ، وأرواح الكفّار عن شماله .
وقالت طائفة أخرى منهم ابن حزم : مستقرّها حيث كانت قبل خلق أجسادها " .
انتهى بتصرّف يسير .
وقال
ابن أبي العزّ عقب ذكر الأقوال في المسألة في شرح "العقيدة الطّحاويّة"
(1/396) : " ويتلخّص من أدلّتها : أنّ الأرواح في البرزخ متفاوتة أعظم
تفاوت فمنها : أرواح في أعلى علّيّين في الملأ الأعلى ، وهي أرواح الأنبياء
صلوات الله عليهم وسلامه وهم متفاوتون في منازلهم ، ومنها أرواح في حواصل
طير خضر تسرح في الجنّة حيث شاءت ، وهي أرواح بعض الشّهداء لا كلّهم ، بل
من الشهداء من تحبس روحه عن دخول الجنة لدين عليه ، ... ومن الأرواح من
يكون محبوسًا على باب الجنّة ، ومنهم من يكون محبوسًا في قبره ، ومنهم من
يكون في الأرض ، ومنها أرواح في تنور الزّناة والزّواني ، وأرواح في نهر
الدم تسبح فيه وتلقم الحجارة ، كلّ ذلك تشهد له السنة والله أعلم ". انتهى
بتصرّف .
والله أعلم .